27 avr. 2016

قصة عن كل شيء - ماذا قبل الكون؟

عودة مرة أخرى إلى قصة الكون بعد انقطاع.

لقد تحدثت في مقالي السابق (أو بالأحرى تحدث البروفيسور لورانس كراوس فلم أفعل غير نقل محاضرته) عن نقطة البداية نقطة الصفر التي كانت بداية كل البدايات والتي أخذتنا في عالم غامض من النظريات المعقدة والفرضيات. ولأصدقكم القول إن معرفتنا عن الكون تبلغ دقة جزء من إثنين وثلاثين عشرا من الثانية 1/1032 s بعد الانفجار العظيم، يمكننا أن نروي بدقة لم يعرف أي من أسلافنا لها مثيلا عما حدث بعد هذه اللحظة بالضبط لكن وكما رأيتم فلا يزال ما قبلها ملفوفا بالغموض وحاولنا في المقال السابق  تقديم لمحة عنه حسب ما توصلنا إليه إلى اليوم. لكن هنالك سؤال يطرح نفسه بقوة لا أستطيع معها تجاهله. إن كانت نيتي الحديث عما بعد نشأة الكون كما يبدو وإن كنت أنوي ترتيب الأحداث زمنيا أليس من الأولى أن أتحدث عما قبل الكون ما حدث قبل الانفجار الذي خلق كل شيء. فماذا قبل الكون؟

ذ
جزء من الكون كما نعرفه اليوم

إن محاولة الإجابة عن هذا السؤال هي كمحاولتك الإجابة لو سألتك ما شعورك لو لم يلتق والداك! السؤال في حد ذاته يناقض المنطق وقولك لن أحس بشيء أو لن أعرف بالأمر لأنني لن أكون موجودا يحمل تناقضا كذلك فكي لا تعرف بشي أو لا تشعر بشيء فهذا يفترض وجودك أولا في الحقيقة أي عبارة تنفي وجودك بضمير المتكلم هي غير مقبولة منطقيا وأي عبارة تعبر عن خواصك البشرية كالمعرفة والإدراك والشعور حتى ولو نفيا هي مرفوضة كذلك.




نفس الأمر ينطبق على الكون والزمن. تذكرت عبارة قرأتها في أحد كتب الفيزياء وأنا في الثانوية: "مع نيوتن كان يعتقد أنه لو اختفى كل ما في الكون فإن كل ما سوف يبقى هو الزمان والمكان لكن مع أينشتاين فلو اختفى كل ما في الكون فإن المكان والزمان سيختفيان كذلك" فالزمن والمكان ليسا شيئين مستقلين عن الكون نفسه الزمن ليس إلا أحد أبعاد الكون (البعد الرابع) لا يعقل وجود زمن دون الكون. فالحقيقة حتى الإجابة بأن لا وجود للزمن قبل الكون خاطئة (تذكر مثال الشخص ووالديه) فقبل هي عبارة خاصة بالزمن ولا يمكن استخدمها لنفي وجوده وفي قولك لا وجود للزمن قبل الكون فمجرد استخدامك لكلمة قبل أنت تفرض بذلك وجود الزمن لكن مع ذلك أنت تنفي وجوده في الكلمة التالية وهذا تناقض منطقي صريح لذلك فمجرد الحديث عما قبل الكون فاسد منطقيا تماما كسؤالك عن شعورك إن لم يلتقي والدك أو أن أطلب منك أن تدلني على الطريق إلى طرف الأرض (والأرض كروية لا أطراف لها)، لكن ما هذا؟ كيف يمكن أن يغيب الزمن؟

أتفهم مدى صعوبة تصور الأمر فنحن كائنات تعيش في عالم من أربعة أبعاد ولا يمكننا فجأة حذف ذلك والطلب من أدمغتنا تقبل الأمر فجأة.

 لكي أقرب الصورة أريدك أن تصور أنك تزور شخصا ما لتجد عنده خزانة جميلة تسأله عن ثمنها ومن أين اشتراها ثم تسأله عما كان عرضها قبل أن يبدأ النجار بصنعها!  السؤال كما ترى لا منطقية له فكيف يوجد العرض وهو أحد أبعاد الخزانة والخزانة لم تصنع بعد، الأمر ليس مختلفا كثيرا بالنسبة للزمن وإن كان في حالة الخزانة لا زلنا نستطيع الحديث عما قبلها. 



إن كانت عقولكم لم تتقبل الأمر بعد فمرة أخرى لست ألومكم وجدت أيضا بعض الصعوبة في تقبله إلى أن قرأت كتابا رائعا جدا يسمى تاريخ مختصر للزمن brief history of time  لصاحبه ستيفن هوكنج (أعشق هذا الكتاب حتى الثمالة) والذي دلني هو الآخر إلى كتاب جميل أيضا للفيلسوف إيمانويل كانط تحد عنوان نقد العقل الخالص Critique of Pure Reason  والذي وجدت فيه فكرة منطقية إلى حد كبير انتقد كانط في مرحلة معينة الفكرتين السائدتين والمتضاربتين في عصره بين أن الكون أزلي وأنه نشأ في نقطة معينة، يقول كانط لو أن الكون أزلي(لا بداية ولا نهاية له) فإن أي فعل نقوم به أي فعل في الكون مسبوق بما لانهاية من الزمن وهذا غير منطقي فكيف للما لانهاية التي لا تنتهي أن تسبق شيء ما ألا يجعل هذا الما لانهاية منتهية وهو تناقض. لكنه قدم ذات الحجة لمن يقولون ببداية الكون في نقطة معينة فالمالانهاية ستسبق بهذا نشأة الكون ويعيد ذات الحجة السابقة بتغيير بسيط هو جعل الفعل نشأة الكون نفسه ولكم أن تتصوروا حجم المعضلة التي طرحها هذا في عصر كان الزمن يعتبر فيه مطلقا مستقلا بذاته.




إن هذا الطرح يجعل فكرة غياب الزمن أكثر قابلية للتصديق بل إنها وكما يبدو الأكثر منطقية، نفس الأمر ينطبق على المكان كذلك لذلك وفي مقالات لاحقة عندما نبدأ بالحديث عن الدقائق الأولى من عمر الكون عن التوسع ونشأة الأجرام السماوية لا أريدكم بأي شكل من الأشكال أن تتخيلوا كرة في مكان خال ومظلم تتوسع لتشغل الحيز حولها فتماما كحال الزمن المكان جزء من الكون ولا وجود له خارج حدوده، الأمر يصعب كي لا أقول يستحيل تصوره فكما سبق وقلت فنحن كائنات تعيش في عالم من أربعة أبعاد ولا تستطيع إلا تجريد ذات العالم فتماما كما أننا نجد من الصعوبة بما فيه تخيل البعد الحادي عشر، نجد كذلك صعوبة في تخيل غياب الأبعاد التي نعيش فيها.





إن الحديث عن البداية فتن الشعوب والحضارات منذ فجر البشرية وعرف عدة فرضيات ميتافيزيقية وفلسفية وعلمية والأسئلة عنها لم تنتهي يوما. لكن أظن أن لجيلنا أن يفخر بعد أن تمكنا من اختزال كل تلك الأسئلة التي لم تصمت يوما في سؤالين فقط. فللأسباب السابق ذكرها. لا يجوز لنا أن نسأل أين ومتى أو ماذا (شرحت الماذا في المقال السابق كون من لا شيء) لكن يحق لنا طرح السؤالين: كيف ولماذا، سؤالان لا تزال الفيزياء الحديثة تعمل بلا هوادة للإجابة عنهما.






المصادر:
The grand desing Stephen Hawking
   Critique of Pure Reason by by Immanuel Kant
The Beginning of Time by Stephen Hawking







2 commentaires:

  1. بالفعل، يصعب و ربما يستحيل على عقولنا الوصول لهذا المستوى من التجريد، و لكن هناك إجابة طالما هناك تفكير

    RépondreSupprimer