17 avr. 2016

لورانس كراوس: كونٌ من لا شيء


 للصراحة. وجدت أنه من الملائم أن تكون بدايتي بالحديث عن البدايات وإن كان الموضوع ليس بالبساطة التي يبدوا عليها. نحن لا نعرف الكثير عن البداية حتى الآن لكننا قطعنا شوطا لا بأس به نحوها. قد لا نحصل على إجابة نهائية اليوم أو غدا في الواقع قد لانحصل على الإجابة النهائية إطلاقا ونحن على قيد الحياة بل في الغالب أننا لن نفعل لكن عزائي أنه قد يأتي يوم تستطيع البشرية أن تتحدث فيه عن البداية بذات الثقة التي تتحدث بها عن ظاهرة الخسوف.
المقال هو عبارة عن جزء من محاضرة 
للفيزيائي النظري لورنس كراوس عن كيفية نشوء الكون  تحت عنوان :كون من لا شيء (له كتاب بذات العنوان أنصح به بشدة).
ترجمة المحاضرة: رائد شيا، عمار الأطرش، 
ضياء أبو فضل. 
يبدأ البروفيسور كراوس المحاضرة بالحديث عن الغموض قائلًا أنه المفتاح في العلم، وأنه ما يجعل العلم مميزًا. ويقول أن العلماء يحبون الغموض، ويشعرون بالإثارة عند تعلمهم عن الكون. وقال إن ما يريد التكلم عنه، هو كيف تغيرت صورتنا عن الكون كثيرًا على مر السنين، لدرجة أننا بتنا ندرك بأن الأشياء المهمة في الكون، هي ليست ما نستطيع رؤيته من النجوم والمجرات وغيرها، بل هي الأشياء التي لا نستطيع رؤيتها (المادة المعتمة والطاقة المعتمة).
ويتابع: في عام 1916 كان أينشتاين قد طور نظريته في النسبية العامة، والتي كانت أول نظرية لاتصف فقط كيف تتحرك الأجسام في المكان، بل كيف أن المكان بحد ذاته يمكن أن يتمدد ويتقلص أي أن يكون ديناميكيًا وينحني بوجود المادة. ولكن كانت هذه النظرية تتعارض مع المشاهدات (الأرصاد) في ذلك الزمن، والتي كانت تفيد بأن الكون كان لا متغيرًا وأبديًا.
كانت النسبية العامة تعاني من نفس المشكلة التي كانت تعاني منها الثقالة النيوتونية، وهي أن قوة الثقالة جاذبة دومًا وليست نافرة. أي أن النجوم والمجرات لن تبقى في مواقعها، بل ستنجذب لبعضها، وبالتالي سينهار الكون على نفسه.
وقد حاول أينشتاين حل هذه المشكلة، بتعديل نظريته قليلًا بالاستفادة من بعض التناظرات الرياضياتية، وسنبين كيف فعل ذلك.

شكل – 1
الطرف الأيسر من معادلات أينشتاين، يعبر عن هندسة الكون، وكيف ينحني الزمكان (النسيج من الزمان والمكان) بوجود مصادر الانحناء، ألا وهي الطاقة وكمية الحركة. ولكن كانت هذه هي النظرية التي لم تعمل، والتي تصف كونًا غير الذي نعيش فيه (أو هكذا ظننا في البداية)، وقد تمكن أينشتاين من تعديلها قليلًا، بإدخال حد إضافي دعاه الحد الكوسمولوجي (الكوني).

شكل – 2
وهذا الحد الإضافي ينتج قوة نافرة صغيرة في الفضاء الخالي، وهذه القوة صغيرة بحيث لا تؤثر على قوانين نيوتن التي تصف حركة الكواكب حول الشمس، وبالتالي لا يمكن ملاحظتها في مقاييس صغيرة من مرتبة أبعاد المجموعة الشمسية، ولكن أثرها التراكمي يصبح ملحوظًا على مستوى المجرات، بحيث أنها تمنع المجرات من الانهيار على بعضها.
ولكن أينشتاين، قد أدرك منذ عام 1923 بأنه لو كان الكون غير مستقر، فلن يكون هناك حاجة للثابت الكوسمولوجي وبالتالي للحد الكوسمولوجي. وذلك لأنه أدرك بأنه لو كان الكون يتوسع (وهذا ما أصبحنا نعرفه اليوم)، فيمكن أن تكون قوة الثقالة جاذبة على المقياس الكوني، وعندها تقوم بإبطاء توسع الكون. ويصبح سؤال الكوسمولوجيا (علم الكون) في القرن العشرين هو: هل هناك ما يكفي من الثقالة لإيقاف هذا التوسع، وكيف سينتهي الكون؟ وقد استغرقنا حتى عام 1929 لنكتشف بأن الكون كان يتوسع، وكان الشخص الذي اكتشف ذلك هو العالم إدوين هبل.

شكل – 3
وهذا الشكل يبين ما اكتشفه:

شكل – 4
إن ما اكتشفه هبل هو أن جميع المجرات تبتعد عنّا في المتوسط، والمجرات التي تبعد عنّا ضعفي المسافة تبتعد عنّا بضعفي السرعة وفق العلاقة: V=H0 D
حيث:
V: سرعة إبتعاد المجرات عنّا
H: ثابت هبل.
D: المسافة التي تفصلنا عنها.
فماذا نستنتج من ذلك؟ قد يبدو للوهلة الأولى أننا مركز الكون ولكن هذا ليس صحيحا، فما يعنيه هذا حقًا هو أن الكون يتوسع بشكل منتظم في جميع الاتجاهات. ولكن لماذا؟ سنحاول تبيان السبب بالنظر إلى كون ثنائي الأبعاد بحيث نستطيع أن نقف خارجه:

شكل – 5
في اللحظة رسمت المجرات على مسافات متساوية من بعضها. وفي اللحظة نلاحظ أنه بتوسع هذا الكون تبتعد هذه المجرات عن بعضها. ولكن ماذا سيرى راصد موجود داخل هذا الكون؟ لنفترض وجود راصد في إحدى هذه المجرات كما في الشكل:

شكل – 6
لكي نعرف ماذا سيشاهد هذا الراصد، نقوم بمطابقة الصورتين على بعضهما بحيث تنطبق المجرة على ذاتها:

شكل – 7
ونلاحظ أننا نرى تماما ما راّه هبل وأن جميع المجرات تبتعد عن هذه المجرة, والمجرات التي تبعد ضعفي المسافة ستبعد في نفس الزمن ضعفي البعد. ولا يهم في أي مجرة وجد هذا الراصد، فإنه سيلاحظ نفس النتيجة!.

شكل – 8
وأينما وجد فسيبدو له وكأنه مركز الكون:

شكل – 9
ولكن حقيقة الأمر أن الكون يتوسع. ولكن كيف علمنا أن الكون يتوسع؟

شكل – 10
في هذا الشكل يقول أحد الرجلين للاّخر: «أحب سماع عويل صافرة القطار الناتج عن تغير تواتر(تردد) الموجة بسبب مفعول دوبلر». إن ما يشير إليه هو أن صوت صافرة القطار يصبح أكثر حدةً عندما يقترب القطار من السامع, في حين يصبح أثخن عندما يبتعد عنه. ونفس المبدأ استخدم من هبل واّخرين لأنه يبقى صحيحًا بالنسبة للضوء لأنه عبارة عن أمواج كهرطيسية ( بينما الصوت هو أمواج ميكانيكية ومفعول دوبلر يطبق على جميع أنواع الأمواج). وبالتالي عندما ننظر إلى المجرات البعيدة، فإذا كانت تبتعد عنّا فإن أطوال أمواج الضوء الصادرة عنها تتمدد ونقول أن الضوء ينزاح نحو الأحمر وذلك لأن اللون الأحمر يمتلك أكبر طول موجة في الطيف المرئي. ومن مقدار الانزياح نحو الأحمر، نستطيع حساب سرعة المجرات.
 ولكن كيف نعرف مسافتها عنّا؟ لنتأمّل في المثال التالي:
لنفترض أن لدينا غرفة يحوي أحد جدرانها على مصباح استطاعته 100 واط ولنفترض أننا أطفأنا جميع الأضواء ما عداه وأننا نمتلك جهازًا يقيس استطاعة الضوء الساقط عليه. فلو استقبل هذا الجهاز 1% فقط من استطاعة المصباح، فسنعلم المسافة التي تفصلنا عنه (وذلك لأن استطاعة الضوء تتناسب عكسا مع مربع المسافة عن المنبع وذلك نتيجةً لانتشار الضوء). ولكن المشكلة هي أن الكون ليس مليئأ بمصابيح استطاعتها 100 واط لذلك يجب علينا أن نبحث عن شيء مكافىء ولفعل ذلك يجب أن نجد ما يسمى بالشمعة العيارية standard candle، وهي شيء نعلم بالضبط مقدار سطوعه الحقيقي. ولذلك عندما ننظر إليه بوساطة تيليسكوب ونقيس مدى سطوعه بالنسبة لنا، فنستطيع كما تعلمنا في حالة المصباح أن نحسب المسافة التي تفصلنا عنه. وما جعل تقدير معدل توسع الكون صعبًا جدًا هو صعوبة إيجاد الشموع العيارية.
هذه بيانات هبل الأصلية من عام 1929 :

شكل – 11
وما وجده هبل في الحقيقة أن السرعة تتناسب طردا مع المسافة والشيء المثير أن الجواب الذي وجده كان خاطئًا بمعامل يصل إلى 10, الشيء الذي كان يعتبر محرجًا في ذلك الزمان، لأنه لو كان الكون يتوسع بهذه السرعة فيمكننا حساب عمره وسيكون 1.5 مليار سنة فقط!! وقد كان هذا في عام 1929 حين كنّا نعلم بأن الأرض كان عمرها أكبر من ذلك وكان من المحرج أن يكون الكون أحدث عمرًا من الأرض!!.
والمشكلة لم تكن أن هبل كان عالمًا سيئًا، بل على العكس تمامًا، كانت لأنه لم يتوفر لديه شموع عيارية جيدة، وبالتالي كانت لديه مشكلة في حساب المسافة, أما اليوم فنحن لدينا مثل هذه الشموع، فمثلًا في هذه الصورة:

شكل – 12
وهي صورة لمجرة بعيدة جدًا (حوالي مليار سنة ضوئية)، يوجد في الصورة جسم يعادل سطوعه سطوع الجزء المركزي من المجرة كاملًا!. قد تظنون أنه نجم من مجرتنا وقد ظهر في الصورة، ولكنه ليس كذلك. بل هو نجم يقع على حافة المجرة التي تظهر في الصورة، وقد تفجر، والنجوم المتفجرة تشع بسطوع 10 مليارات نجم، ويدعى النجم المتفجر مستعرًا فائقًا supernova.

شكل – 13
وهذه النجوم المتفجرة (المستعرات الفائقة)، هي شموع عيارية ممتازة. والسبب أننا نستطيع أن نرصدها. فبالرغم من أن واحدة منها تحدث كل مائة عام في المجرة الواحدة، فهناك ما يكفي من المجرات، بحيث أنك لو نظرت في ليلة مظلمة إلى بقعة من السماء بحجم عملة معدنية، وبوساطة تلسكوب قوي بما فيه الكفاية، عندئذ يمكنك أن ترى حوالي مائة ألف مجرة، وهذا يعني بأنه بالرغم من أن النجوم تتفجر مرة كل مائة عام في المجرة الواحدة، فإنك وفي هذه المنطقة الصغيرة، ستتمكن من رؤية 10 نجوم تتفجر.
الكون ضخم وقديم والأشياء النادرة. تحصل فيه طوال الوقت بما فيها الحياة! إذًا فنحن نستطيع مراقبة النجوم وهي تتفجر، وقياس سطوعها وألوانها، وهذا قد سمح لنا بإيجاد شموع عيارية ممتازة. والآن وبعد 75 عامًا فإننا نستطيع تقدير معدل توسع الكون.
هذا مخطط هبل جديد أفضل بكثير من المخطط الأصلي:

شكل – 14
والآن نحن نعلم معدل توسع الكون بدقة تصل إلى 10% وليس بمعامل 10، كما أننا نعلم أيضًا عمر الكون بدقة هائلة، تصل إلى أربع مراتب عشرية، وهو 13.72 مليار سنة! والآن، وبالعودة إلى أينشتاين (راجع الشكل 2)، فقد أراد التخلص من الحد الكوسمولوجي، ولكن تبين أن الأمر ليس بهذه السهولة. فلو عدنا إلى الشكل 2، ونقلنا الحد الكوسمولوجي إلى الطرف الأيمن من المعادلة، لحصلنا على:

شكل – 15
وبالرغم من أنها خطوة صغيرة رياضياتيًا، إلا أنها خطوة عملاقة فيزيائيًا، وذلك لأن الحد الكوسمولوجي سيمثل شيئًا مختلفًا تمامًا وهو في الطرف الأيمن من المعادلة، إذ أنه عندما كان في الطرف الأيسر، فقد كان يمثل كمية هندسية، أما في الطرف الأيمن، فهو يبدو كمساهمة جديدة للطاقة وكمية الحركة في الكون. فما الذي يمكن أن يساهم بحد كهذا؟ إننا نعلم الجواب وهو «اللاشيء». وعندما نقول «لاشيء»، فإننا لانقصد لاشيء بالمعنى التقليدي.
إذا أخذنا الفضاء الخالي، وهذا يعني أننا قد تخلصنا من كل الجسيمات وكل الإشعاع، أي تخلصنا من كل شيء تمامًا، بحيث لم يبق هناك شيء، فإن كان هذا «اللاشيء» يزن شيئًا، عندئذ يمكنه المساهمة بحد كهذا. وبالطبع هذا يبدو سخيفًا، فكيف يمكن «للاشيء» أن يزن شيئًا؟ فاللاشيء هو لاشيء! الجواب هو: اللاشيء لم يعد لاشيئًا بعد الآن في الفيزياء! وذلك بسبب قوانين ميكانيك الكم والنسبية الخاصة عند المقاييس الغاية في الصغر، فإن اللاشيء يعج بالجسيمات الافتراضية، التي تظهر وتختفي من الوجود في فترات زمنية غاية في الصغر، لدرجة أنه لايمكننا مشاهدتها.
قد يبدو هذا الكلام كالنظريات الفلسفية، أو أنه ليس علمًا (بما أننا لانستطيع رصد هذه الجسيمات)، ولكننا في الواقع، وبالرغم من أننا لا نستطيع رصد الجسيمات الافتراضية مباشرة، إلا أننا نستطيع قياس آثارها بشكل غير مباشر. وفي الواقع، فهي مسؤولة عن أفضل التنبؤات في الفيزياء.
في الشكل التالي لدينا الفضاء الخالي داخل البروتون، وهو الفضاء بين الكواركات (الجسيمات التي تشكل البروتون)، وهكذا يبدو كما تبين محاكاة مبنية على حسابات فيزيائية دقيقة:

شكل – 16
لاحظ ظهور المادة من لاشيء واختفائها مجددًا. وقد تبين أن معظم كتلة البروتون، تأتي ليس من الكواركات ضمنه، بل من الفضاء الخالي بين هذه الكواركات. إن هذه الحقول التي تظهر وتختفي من الوجود، تمنح البروتون حوالي 90% من كتلته. وبما أن البروتونات والنيوترونات هي المادة المهيمنة في جسدك، فهذا يعني أن الفضاء الخالي مسؤول عن 90% من كتلتك، فالفضاء الخالي غاية في الأهمية في العلم. وهذه الحسابات غاية في الأهمية، ليس فقط من أجل فهم البروتونات، بل الإلكترونات والذرات أيضًا.
فهذه الحسابات تنتج أفضل تطابق بين النظرية والتجربة في كل العلم: حتى 10 مراتب عشرية في الإلكتروديناميك الكمومي! فإذا كانت هذه هي الحالة، فلنحسب طاقة «اللاشيء» في حال عدم وجود أي شيء على الإطلاق. وعندما نفعل ذلك، سنحصل على رقم سيء جدًا يعد أسوأ تنبؤ في الفيزياء، يبينه الشكل التالي:

شكل – 17
سينتج أن الفضاء الخالي (اللاشيء) يمكن أن يحتوي على كمية من الطاقة أكبر بـ 123 مرتبة كبر من طاقة كل المجرات والنجوم و…الخ. ولو كان هذا صحيحًا؛ لما كنا موجودين هنا، لذلك فقد عرفنا بأن هناك خطًا في هذا الرقم. والأكثر من ذلك، هو أننا نعرف ما يجب أن يكون الجواب. فنحن نعلم أن الجواب لابد وأن يكون صفرًا، فهو الجواب الوحيد المعقول، إذ لا توجد طرق لتخفيض الرقم السابق كي يتوافق مع المشاهدات، ولكن الصفر هو رقم يمكن الحصول عليه بطرق جميلة في العلم، فبإمكاننا استخدام التناظرات الرياضياتية في الطبيعة.
وبالتالي فقد كنا نعلم الجواب، ولكننا لم نعلم ما هو التناظر الذي يمكننا من الحصول عليه. ولكن الأمر الجميل في الكوسمولوجيا، أنها حقًا علم. والعلم تجريبي. معرفة الجواب لاتعني شيئًا، اختبار المعرفة يعني كل شيء! إذًا فالسؤال هو: بما أنه يجب علينا أن نقيس طاقة الفضاء الخالي، فكيف نفعل ذلك؟ نفعل ذلك عن طريق إيجاد كتلة الكون. نستطيع استخدام الجاذبية لإيجاد كتلة الكون، بما فيها كتلة الفضاء الخالي (وبالتالي طاقته). تخبرنا النسبية العامة بأن الفضاء منحن، وأنه يمكن أن يكون للكون إحدى الهندسات الثلاثة: مفتوح أو مغلق أو مسطح، كما يبين الشكل التالي:

شكل – 18
لا يمكننا رسم صور لأكوان منحنية ثلاثية الأبعاد، لذلك تمثل الصور في الشكل أكوانًا ثنائية البعد. لو كان كوننا مغلقًا، عندها لو نظرت مسافة كافية أمامك، لتمكنت من رؤية مؤخرة رأسك، وذلك لأن الضوء سيدور حول الكون. بينما الكونان المسطح والمفتوح، لهما امتداد غير منته مكانيًا. إن الأمر المهم هو أنه في كون مليء بالمادة، وفي حال كان مغلقًا، فإنه سيتمدد وسيتوقف عن التمدد، ثم سينهار على ذاته في انسحاق عظيم (العملية المعاكسة للانفجار العظيم). أما الكون المفتوح، فسيتمدد للأبد. والكون المسطح، سيتمدد ويتباطأ تمدده، ولكنه لن يتوقف عن التمدد تمامًا. ولهذا السبب فقد أردنا أن نعرف، أي نوع من الأكوان هو كوننا. لأنه بمجرد معرفتنا لذلك، سنعرف كيف سينتهي الكون. وكتلة الكون تخبرنا ما هو مقدار انحنائه. ولهذا أردنا قياسها.
في الصورة التالية يظهر حشد من المجرات. وكل نقطة في الشكل هي عبارة عن مجرة.

شكل – 19
ويبعد عنا هذا الحشد حوالي 3 مليارات سنة ضوئية.
 إن الحشود المجرية، هي أكبر الأجسام المترابطة في الكون. فإذا ما تمكنا من قياس كتلها، عندئذ نستطيع إيجاد كامل الكتلة في الكون. ونحن الآن نستطيع القيام بذلك بواسطة النسبية العامة. لأنه في هذه الصورة، هناك ظاهرة رائعة كان أينشتاين قد تنبأ بها منذ عام 1937. إذا نظرنا بتمعن في هذه الصورة، سنجد أشياء زرقاء غريبة. هذه هي ظاهرة نفهمها الآن بأنها التعديس التثاقلي (Gravitational Lensing).
لقد أخبرنا أينشتاين أن الكتلة تحني الفضاء حولها، ولذلك إذا كانت لدينا كتلة كبيرة بما يكفي، وكان لدينا منبع ضوئي يقع خلف هذه الكتلة، فإن الضوء سينحني حول هذه الكتلة. وبذلك يحدث تكبير لصورة المنبع الضوئي بطريقة مشابة لتكبير العدسة للأجسام. فالكتلة تستطيع أن تتصرف كعدسة، فتكبر الأشياء وتجزئ الصور، وهذا هو بالضبط ما نراه في الصورة. فكل هذه الأشياء الزرقاء هي صور مختلفة لمجرة واحدة تقع على مسافة حوالي 3 مليارات سنة ضوئية خلف هذا الحشد.
ولكن، ولأننا نفهم النسبية العامة، فنستطيع القيام بعملية عكسية، ومعرفة ما هي الكتلة التي يجب أن يمتلكها الحشد، وأين يقع، حتى تنتج هذه الصورة. وبالتالي يمكننا إيجاد كتلة هذا الحشد باستخدام النسبية العامة. وعندما نفعل ذلك نجد هذا الشكل:

شكل – 20
يبين هذا الشكل توزع الكتلة في المنظومة (الحشد). والنتوءات هي حيث توجد المجرات. ونلاحظ أن معظم الكتلة في كامل هذه المنظومة ليست موجودة في المجرات, بل بينها. أي أنها في المكان الذي لا يوجد فيه شيء يشع!. ونلاحظ أيضا أن معظم الكتلة في كل المنظومات التي نستطيع رصدها تأتي أيضا من مواد لا تشع!. وقد دعا الفيزيائيون هذه المادة التي لا تصدر إشعاعًا بالمادة المعتمة (Dark matter).
ونحن نعلم الاّن أن حولي 90% من كتلة المجرات والحشود المجرية، بما فيها مجرتنا درب التبانة، تأتي من مواد لاتشع. قد يبدو هذا أنه ليس بتلك الإثارة، فهناك العديد من الأجسام التي لا تشع، فقد تكون كرات ثلجية أو كواكب أو …الخ. ولكنها ليست كذلك. لأنه ولأسباب لا يتسع المجال لذكرها هنا، فنحن نعلم كم عدد البروتونات والنيوترونات في الكون. وقد قمنا بقياسه. وببساطة، فلا يوجد العدد الكافي منها لتشكل كل هذه الكتلة من المادة المعتمة. لذلك فنحن مقتنعون بأن هذه المادة مكونة من نوع جديد من الجسيمات الأولية. والشيء المثير في ذلك، هو أن المادة المعتمة ليست موجودة فقط في الفضاء الخارجي، وإنما أيضًا موجودة في الغرفة التي تجلس فيها وأنت تقرأ هذه المقالة وتقوم باختراق جسدك. وهذا يعني أننا نستطيع القيام بتجارب هنا على الأرض لنبحث عنها.
بقياس كتل الحشود المجرية (بما تحويه من مادة ومادة معتمة)، فقد استطعنا الاّن تحديد كمية المادة الموجودة في الكون. نعرّف Ω بأنها نسبة الكتلة الكلية للمادة التي نعرف أنها موجودة في الكون، إلى كمية المادة التي نحتاجها لجعل الكون مسطحًا. وهي تحدد إذا ما كان الكون مغلقًا أم مفتوحًا أم مسطحًا. فلو كانت قيمتها أقل من 1، يكون الكون مفتوحًا. وإن كانت أكبر من 1، يكون الكون مغلقًا. بينما لو كانت قيمتها تساوي 1، فالكون مسطح.

شكل – 21
ولقد قسنا اليوم، بما لايدع مجالًا للشك، أن الكتلة الموجودة في الكون، تعادل فقط 30% من الكتلة اللازمة لجعله مسطحًا. ولكن المشكلة كانت أن الفيزيائيين النظريين كانوا يعلمون أن الكون لابد وأن يكون مسطحًا. لماذا؟
هناك سببان. الأول: لأنه الكون الوحيد الجميل رياضياتيًا. والسبب الثاني هو أنه اتضح أنه في كون مسطح، تكون الطاقة الكلية مساوية صفرًا بالضبط، وذلك لأن الجاذبية يمكن أن تكون لها طاقة سالبة. فالطاقة السالبة للجاذبية توازن الطاقة الموجبة للمادة.
ولكن ما هو الجميل في كون طاقته الكلية تساوي الصفر؟ فقط هكذا كون يمكن أن يبدأ من لاشيء لأن قوانين الفيزياء تسمح له بذلك، فأنت لاتحتاج لإله! لديك «لاشيء»، أي طاقة كلية تساوي الصفر، والتقلبات الكمومية تستطيع إنتاج كون.
فلو لم يكن الكون مسطحًا، عندها فهذا مقلق، لأنه ستكون هناك كمية من الطاقة في بداية الزمن (لحظة الانفجار العظيم). ولكننا لاحظنا أن الراصدين كانوا قد استنتجوا أن الكون مفتوح! لحل هذا التناقض قررنا قياس كتلة الكون بطريقة أدق، لأن الطريقة السابقة التي استعملناها هي طريقة تقريبية. ولذلك لجأنا إلى الهندسة مباشرةً. لنتساءل: كيف يمكننا قياس انحناء الأرض إذا لم نستطع مشاهدتها من الفضاء الخارجي، ولم يكن مسموحًا لنا الدوران حولها؟
إن الطريقة بسيطة للغاية: فإذا رسمنا مثلثًا على سطح غير منحن، سيكون مجموع زواياه 180 درجة. ولكن على سطح منحن فالأمر مختلف تمامًا. فلو رسمنا مثلثًا على سطح الأرض، يمكننا مثلًا جعل أحد أضلاعه موازيًا لخط الاستواء، ثم نرسم الضلع الثاني بحيث يصنع زاوية قائمة مع الأول متجهًا نحو القطب الشمالي، ثم نرسم الضلع الثالث بحيث يصنع زاوية قائمة مع الثاني، عائدًا ليتقاطع مع الضلع الأول الموازي لخط الاستواء، كما في الشكل:

شكل – 22
بهذا نكون قد حصلنا على مثلث بثلاث زوايا قائمة، فيكون مجموع زواياه 270 درجة. وبالتالي برسم مثل هذا المثلث على سطح الأرض، نستطيع قياس انحناء سطح الكرة الأرضية، دون الاضطرار للدوران حولها أو مغادرتها. لقد تبين أنه وبالرغم من أن هذا التمثيل هو لفضاء ثنائي الأبعاد، فإن نفس الكلام يبقى صحيحًا بالنسبة لكون منحن ثلاثي الأبعاد. لو كان لدينا مثلث كبير بما فيه الكفاية، وقمنا بقياس زواياه، عندها نستطيع قياس انحناء الفضاء. وفي العقد الأخير، تمكنا من إيجاد مثل هذا المثلث. وسنتحدث عن ذلك قليلًا، لأنه، وعلى الأرجح، أهم رصد في الكوسمولوجيا، ألا وهو رصد إشعاع الخلفية الكونية ماكروي الموجة (CMB) وهو الوميض الناتج عن الانفجار العظيم.

شكل – 23
ورصْدُنا لهذا الإشعاع هو أحد الأسباب العديدة التي نعرف من خلالها أن الانفجار العظيم قد وقع بالفعل. عندما ننظر في الفضاء إلى المجرات، ولتكن المجرات التي على بعد مليار سنة ضوئية، فسنراها كما كانت قبل مليار سنة. ونحن نعلم أن عمر الكون هو 13.72 مليار سنة، فلو نظرنا إلى عمق كاف في الفضاء، فلا بد أن نتمكن من رؤية الانفجار العظيم. ولكننا لانستطيع رؤيته، لأنه بيننا وبينه هناك جدار. ولانقصد بذلك جدارًا صلبًا، ولكنه جدار يمنع مرور الضوء عبره (عاتم).
 فكلما نظرنا أعمق في الفضاء، فإننا نحدق أكثر في الماضي. وكلما عدنا أكثر في الزمن، فإن درجة حرارة الكون تغدو أعلى. وعندما نصل إلى نقطة يكون فيها عمر الكون مائة ألف عام، فإن درجة حرارته تكون عندها 3000 كلفن. وعند درجة الحرارة تلك، فإن الإشعاع يمتلك طاقة كافية لتحطيم الذرات، وبالتحديد ذرات الهيدروجين. وبالتالي تصبح الإلكترونات والبروتونات منفصلة عن بعضها. ويغدو الكون مكونًا من بلازما من الجسيمات المشحونة. والبلازما عاتمة للإشعاع، وبالتالي لن نستطيع الرؤية أبعد من ذلك في الزمن، ببساطة لأن الكون يكون عاتمًا بدءًا من هذه النقطة.
ولقد كان أحد تنبؤات نظرية الانفجار العظيم، بأنه يجب أن نرصد إشعاعًا قادمًا إلينا من جميع الاتجاهات، آتيًا من ذلك السطح (الجدار) الذي يدعى سطح التبعثر(التشتت) الأخيرLast Scattering Surface. وقد تم اكتشاف هذا الاشعاع عام 1965 بالصدفة وحصل مكتشفاه على جائزة نوبل, علمًا أن العالم جورج غاموف كان قد تنبأ به منذ زمن بعيد قبل اكتشافه.
على هذا السطح يوجد مقياس هام هو 1⁰. ولكن لماذا 1⁰؟ لأن هذا يمثل مسافة تعادل 100 ألف سنة ضوئية, وهذا السطح كان قد وجد عندما كان عمر الكون 100 ألف سنة, وأينشتاين أخبرنا أنه لا يوجد معلومات تنتشر أسرع من الضوء, وهذا يعني أنه لاشيء مما حصل ضمن هذه المنطقة التي تبلغ 1⁰ يمكن أن يؤثر على المناطق المجاورة لها. والأهم من ذلك، هو أنه لو كان لدينا قطعة من المادة بهذا الكبر، فإنها تعلم بأنها قطعة من المادة (أي ستستشعر أجزاؤها ببعضها)، وبالتالي تبدأ بالانهيار على نفسها تحت تأثير الثقالة.
أي أن القياس الزاوي لأكبر قطع من المادة والتي يمكن أن تكون قد انهارت على نفسها تحت تأثير الثقالة في ذلك الزمن، سيكون 1⁰. وهذا يعطينا مثلثنا الكوني الذي كنا نبحث عنه، لأنه أصبحت لدينا الآن مسطرة طولها مائة ألف سنة ضوئية، وهو قطر أكبر القطع من المادة التي يمكن أن تنهار على نفسها تثاقليًا، وهذه القطع تقع على مسافة معلومة منا. وفي كون مسطح، فإن الأشعة الضوئية تسافر في خطوط مستقيمة. ونستطيع حساب الزاوية التي ستشغلها هذه المسطرة كما نقيسها على تلك المسافة، وستكون مساوية إلى 1⁰. أما في كون مفتوح، فالأشعة الضوئية تتحرك على منحنيات متباعدة عن بعضها. وستبدو المسطرة بأنها تشغل زاوية مقدارها نصف درجة، أي ستبدو أصغر. وفي كون مغلق، فالأشعة الضوئية تسافر على منحنيات متقاربة، والمسطرة ستبدو أكبر.

شكل – 24
فكل ما علينا فعله هو أن ننظر إلى ذلك السطح مايكروي الموجة، ونقوم بقياس أقطار أكبر قطع المادة التي انهارت، ونرى هل هي 1⁰ أو 2⁰ أو 0.5⁰؟ وقد تمكنا من فعل ذلك في العقد الماضي. هذا الشكل يبين أول تجربة قامت بذلك، وقد أجريت هذه التجربة في أنتاركتيكا (القارة القطبية الجنوبية) وتدعى تجربة (BOOMERanG).

شكل – 25
وهذه التجربة، هي عبارة عن بالون يحمل مقياسًا للأمواج الراديوية، والذي يقوم بدوره بتصوير إشعاع الخلفية الكونية. هذه الصورة التي التقطها، وهي ملونة بألوان زائفة، تبين البقع الحارة والباردة في هذا الإشعاع. وهذه البقع، تقابل قطع المادة التي تحدثنا عنها سابقًا في الكون المبكر.

شكل – 26
والسؤال هو، كم يبلغ كبرها؟ وهنا صورة بألوان زائفة لنفس المنطقة، مقرونة بصور ناتجة عن محاكيات حاسوبية في حال الهندسات المختلفة الممكنة للكون.

شكل – 27
نلاحظ أنه في الكون المغلق، سيكون حجم قطع المادة أكبر، ولكنه لا يتطابق مع ما رصدناه. أما في الكون المفتوح، فحجم القطع سيبدو أصغر مما رصدناه. ولكن، وكما توقع النظريون، في الكون المسطح، فإن حجم القطع يساوي تمامًا حجم القطع الذي رصدناه! وفي الواقع، فنحن نعلم بدقة، أفضل من 1%، أن الكون مسطح، ولديه طاقة كلية تساوي الصفر.
ولذلك يمكن للكون أن يوجد من لاشيء ومن تلقاء ذاته! وهذا يجيب على السؤال: لماذا يوجد شيء بدلًا من لاشيء؟ والجواب هو أنه لابد من ذلك. إذا كان لديك لاشيء، فإنك ستحصل على شيء دائمًا وفقًا لميكانيك الكم!
إن الأمر بهذه البساطة. ولكن كيف يكون الكون مسطحًا، وكنا قد برهنا سابقًا أنه مفتوح؟! فهناك فقط 30% من كمية المادة اللازمة لجعل الكون مسطحًا!. فأين الـ 70% الباقية؟ في الواقع لو كان الفضاء الخالي يحتوي على طاقة، فنحن لن نراها لأنها ستكون في الفضاء الفاصل بين المجرات، فكيف سيكون سلوكه عندئذ؟ في الحقيقة فإنه سينتج ثابتًا كوسمولوجيًا، وهذا بدوره سيجعل تمدد الكون لايتباطأ مع الزمن، بل يتسارع!.

شكل – 28
في عام 1989 وعندما كان الراصدون يقيسون المستعرات الفائقة على مسافات شاسعة، وذلك من أجل وضع مخطط هبل، كي يتمكنوا من أن يعرفوا ماذا يحصل على المقاييس الكبيرة، وأن يقيسوا معدل تباطؤ توسع الكون (لأنهم كانوا مايزالون يظنون وقتها أن توسع الكون متباطئ)، قاموا بالحصول على نتائج أحدثت ثورة في الكوسمولوجيا.

شكل – 29
 فقد صدموا بأن أرصادهم أفادت بأن تمدد الكون يتسارع بعكس ما كانوا يتوقعونه!. وعندما حسبوا ما هي كمية الطاقة اللازم وجودها في الفضاء الخالي كي تجعل توسع الكون يتسارع بالمعدل الذي قاسوه، وجدوا أنها كمية مساوية بالضبط لكمية الطاقة التي تنقصنا لجعل الكون مسطحًا!
وبذلك فقد ارتبط كل شيء ببعضه. وصورتنا الجديدة عن علم الكون، هي أننا نعيش في كون يسيطر عليه “اللاشيء”. فأكبر طاقة في الكون، والتي تشكل 70% من طاقة الكون، موجودة في الفضاء الخالي، ونحن لانمتلك أي فكرة عن سبب وجودها هناك!

الخلاصة:

إن هذا يكْمل بمعنىً من المعاني المبدأ الكوبرنيكي الأقصى. فكوبرنيكوس كان قد أخبرنا بأننا لا نعيش في أي مكان مميز. وصورتنا الجديدة عن علم الكون تخبرنا أننا أتفه مما كنا نتصور في الكون! فلو أزلنا من الكون كل ما يمكننا رؤيته من نجوم ومجرات وحشود مجرية، كل شيء تمامًا، فالكون لن يتأثر عمليًا، إذ أن كل الكون المرئي يمثل 1% من التلوث (الشوائب) في كون يحوي على 29% مادة معتمة، و70% طاقة معتمة، أي أنه ليست لنا قيمة على الإطلاق! لذلك و في المرة القادمة التي تتناسى فيها وتتصرف كما لو أن الكون كله خلق لك تذكر أنك فرد لا يكاد يذكر على كوكب لا يكاد يذكر في مجرة لا تكاد تذكر في جزء لا يكاد يذكر من 1% من الكون. أظن أن هذا يدفعنا بشكل أو بآخر لنصبح أفرادا أفضل
(سأحاول شرح جميع ما جاء في هذا المقال بالتفصيل في مقالات لاحقة. لقد كان هذا خطوة متقدمة نوعا ما كبداية. لكن وكما قلت سابقا لا أفضل من البدايات للبداية) 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire